سورة الحديد - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)}
قوله: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: {يَوْمَ يَقُولُ}، بدل من {يَوْمَ تَرَى} [الحديد: 12]، أو هو أيضاً منصوب باذكر تقديراً.
المسألة الثانية: قرأ حمزة وحده (أنظرونا) مكسورة الظاء، والباقون (أنظروا)، قال أبو علي الفارسي لفظ النظر يستعمل على ضروب أحدها: أن تريد به نظرت إلى الشيء، فيحذف الجار ويوصل الفعل، كما أنشد أبو الحسن:
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن *** كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك.
وثانيها: أن تريد به تأملت وتدبرت، ومنه قولك: إذهب فانظر زيداً أيؤمن، فهذا يراد به التأمل، ومنه قوله تعالى: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} [الأسراء: 48]، {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} [النساء: 50]، {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [الإسراء: 21] قال: وقد يتعدى هذا بإلى كقوله: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] وهذا نص على التأمل، وبين وجه الحكمة فيه، وقد يتعدى بفي، كقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السموات والأرض} [الأعراف: 185]، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} [الروم: 8].
وثالثها: أن يراد بالنظر الرؤية كما في قوله:
ولما بدا حوران والآل دونه *** نظرت فلم تنظر بعينك منظراً
والمعنى نظرت، فلم تر بعينك منظراً تعرفه في الآل قال: إلا أن هذا على سبيل المجاز، لأنه دلت الدلائل على أن النظر عبارة عن تقلب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، فلما كانت الرؤية من توابع النظر ولوازمه غالباً أجرى على الرؤية لفظ النظر على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب قال: ويجوز أن يكون قوله: نظرت فلم تنظر، كما يقال: تكلمت وما تكلمت، أي ما تكلمت بكلام مفيد، فكذا هنا نظرت وما نظرت نظراً مفيداً.
ورابعها: أن يكون النظر بمعنى الانتظار، ومنه قوله تعالى: {إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاه} [الأحزاب: 53] أي غير منتظرين إدراكه وبلوغه، وعلى هذا الوجه يكون نظرت معناه انتظرت، ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير، كقولهم: شويت واشتويت، وحقرت واحتقرت، إذا عرفت هذا فقوله: {انظرونا} يحتمل وجهين:
الأول: أنظرونا، أي انتظرونا، لأنه يسرع بالمؤمنين إلى الجنة كالبروق الخاطفة، والمنافقون مشاة والثاني: أنظرونا أي أنظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وأما قراءة (أنظرونا) مكسورة الظاء فهي من النظرة والإمهال، ومنه قوله تعالى: {أَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنظار المعسر، والمعنى أنه جعل اتئادهم في المشي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم.
واعلم أن أبا عبيدة والأخفش كانا يطعنان في حصة هذه القراءة، وقد ظهر الآن وجه صحتها.
المسألة الثالثة: اعلم أن الاحتمالات في هذا الباب ثلاثة أحدها: أن يكون الناس كلهم في الظلمات، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار، والمنافقون يطلبونها منهم.
وثانيها: أن تكون الناس كلهم في الأنوار، ثم إن المؤمنين يكونون في الجنات فيمرون سريعاً، والمنافقون يبقون وراءهم فيطلبون منهم الانتظار.
وثالثها: أن يكون المؤمنون في النور والمنافقون في الظلمات، ثم المنافقون يطلبون النور مع المؤمنين، وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الاحتمالات قوم، فإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند الموقف، فالمراد من قوله: {انظرونا} انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم، فقد أقبلوا عليهم، ومتى أقبلوا عليهم وكانت أنوارهم من قدامهم استضاءوا بتلك الأنوار، وإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند مسير المؤمنين إلى الجنة، كان المراد من قوله: {انظرونا} يحتمل أن يكون هو الانتظار وأن يكون النظر إليهم.
المسألة الرابعة: القبس: الشعلة من النار أو السراج، والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين أن يقتبسوه كاقتباس نيران الدنيا وهو منهم جهل، لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، فلما لم توجد تلك الأعمال في الدنيا امتنع حصول تلك الأنوار في الآخرة، قال الحسن: يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله، ثم إنه يؤخذ من حر جهنم ومما فيه من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق، فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء، ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفئ نور المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للمؤمنين: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} كقبس النار.
المسألة الخامسة: ذكروا في المراد من قوله تعالى: {قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً} وجوهاً أحدها: أن المراد منه: ارجعوا إلى دار الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هنالك، فإن هذه الأنوار إنما تتولد من اكتساب المعارف الإلهية، والأخلاق الفاضلة والتنزه عن الجهل والأخلاق الذميمة، والمراد من ضرب السور، هو امتناع العود إلى الدنيا.
وثانيها: قال أبو أمامة: الناس يكونون في ظلمة شديدة، ثم المؤمنون يعطون الأنوار، فإذا أسرع المؤمن في الذهاب قال المنافق: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} فيقال لهم: {ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً} قال: وهي خدعة خدع بها المنافقون، كما قال: {يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً، فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروباً بينهم وبين المؤمنين.
وثالثها: قال أبو مسلم: المراد من قول المؤمنين: {ارجعوا} منع المنافقين عن الاستضاءة، كقول الرجل لمن يريد القرب منه: وراءك أوسع لك، فعلى هذا القول المقصود من قوله: {ارجعوا} أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة، لا أنه أمر لهم بالرجوع.
قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اختلفوا في السور، فمنهم من قال: المراد منه الحجاب والحيلولة أي المنافقون منعوا عن طلب المؤمنين، وقال آخرون: بل المراد حائط بين الجنة والنار، وهو قول قتادة، وقال مجاهد: هو حجاب الأعراف.
المسألة الثانية: الباء في قوله: {بِسُورٍ} صلة وهو للتأكيد والتقدير: ضرب بينهم سور كذا، قاله الأخفش، ثم قال: {لَّهُ بَابٌ} أي لذلك السور باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} أي في باطن ذلك السور الرحمة، والمراد من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين {وظاهره} يعني وخارج السور {مِن قِبَلِهِ العذاب} أي من قبله يأتيهم العذاب، والمعنى أن ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة، وما يلي الكافرين يأتيهم من قبله العذاب، والحاصل أن بين الجنة والنار حائط وهو السور، ولذلك السور باب، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور، والكافرون يبقون في العذاب والنار.


{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا والثاني: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في العبادات والمساجد والصلوات والغزوات، وهذا القول هو المتعين.
المسألة الثانية: البعد بين الجنة والنار كثير، لأن الجنة في أعلى السموات، والنار في الدرك الأسفل، فهذا يدل على أن البعد الشديد لا يمنع من الإدراك، ولا يمكن أن يقال: إن الله عظم صوت الكفار بحيث يبلغ من أسفل السافلين إلى أعلى عليين، لأن مثل هذا الصوت إنما يليق بالأشداء الأقوياء جداً، والكفار موصوفون بالضعف وخفاء الصوت، فعلمنا أن البعد لا يمنع من الإدراك على ما هو مذهبنا، ثم حكى تعالى: أن المؤمنين قالوا بلى كنتم معنا إلا أنكم فعلتم أشياء بسببها وقعتم في هذا العذاب أولها: {ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي بالكفر والمعاصي وكلها فتنة.
وثانيها: قوله: {وَتَرَبَّصْتُمْ} وفيه وجوه:
أحدها: قال ابن عباس: تربصتم بالتوبة.
وثانيها: قال مقاتل: وتربصتم بمحمد الموت، قلتم يوشك أن يموت فنستريح منه.
وثالثها: كنتم تتربصون دائرة السوء لتلتحقوا بالكفار، وتتخلصوا من النفاق.
وثالثها: قوله: {وارتبتم} وفيه وجوه:
الأول: شككتم في وعيد الله.
وثانيها: شككتم في نبوة محمد.
وثالثها: شككتم في البعث والقيامة.
ورابعها: قوله: {وَغرَّتْكُمُ الأماني} قال ابن عباس: يريد الباطل وهو ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين {حتى جَاء أَمْرُ الله} يعني الموت، والمعنى ما زالوا في خدع الشيطان وغروره حتى أماتهم الله وألقاهم في النار.
قوله تعالى: {وَغَرَّكُم بالله الغرور} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ سماك بن حرب: {الغرور} بضم الغين، والمعنى وغركم بالله الاغترار وتقديره على حذف المضاف أي غركم بالله سلامتكم منه مع الاغترار.
المسألة الثانية: {الغرور} بفتح الغين هو الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة.


{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}
ثم قال تعالى: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا}. الفدية ما يفتدى به وهو قولان: الأول: لا يؤخذ منكم إيمان ولا توبة فقد زال التكليف وحصل الإلجاء.
الثاني: بل المراد لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم، كقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة} [البقرة: 123]، واعلم أن الفدية ما يفتدى به فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال، وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً على ما تقوله المعتزلة لأنه تعالى بين أنه لا يقبل الفدية أصلاً والتوبة فدية، فتكون الآية دالة على أن التوبة غير مقبولة أصلاً، وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلاً أما قوله: {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} ففيه بحث: وهو عطف الكافر على المنافق يقتضي أن لا يكون المنافق كافراً لوجوب حصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والجواب: المراد الذين أظهروا الكفر وإلا فالمنافق كافر.
ثم قال تعالى: {مَأْوَاكُمُ النار هِىَ مولاكم وَبِئْسَ المصير}.
وفي لفظ المولى هاهنا أقوال: أحدها قال ابن عباس: {مولاكم} أي مصيركم، وتحقيقه أن المولى موضع الولي، وهو القرب، فالمعنى أن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه، والثاني: قال الكلبي: يعني أولى بكم، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة، واعلم أن هذا الذي قالوه معنى وليس بتفسير للفظ، لأن لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة، لصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر، فكان يجب أن يصح أن يقال: هذا مولى من فلان كما يقال: هذا أولى من فلان، ويصح أن يقال: هذا أولى فلان كما يقال: هذا مولى فلان، ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير، وإنما نبهنا على هذه الدقيقة لأن الشريف المرتضى لما تسمك بإمامة علي، بقوله عليه السلام: «من كنت مولاه فعلي مولاه» قال: أحد معاني مولى أنه أولى، واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية، بأن مولى معناه أولى، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه، لأن ما عداه إما بين الثبوت، ككونه ابن العم والناصر، أو بين الإنتفاء، كالمعتق والمعتق، فيكون على التقدير الأول عبثاً، وعلى التقدير الثاني كذباً، وأما نحن فقد بينا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير، وحينئذ يسقط الاستدلال به، وفي الآية وجه آخر: وهو أن معنى قوله: {هِيَ مولاكم} أي لا مولى لكم، وذلك لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له، كما يقال: ناصره الخذلان ومعينه البكاء، أي لا ناصر له ولا معين، وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى: {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] ومنه قوله تعالى: {يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل} [الكهف: 29].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8